#
الثقافة رافد مهم لنهر العلاقات المصرية-الصينية

الثقافة رافد مهم لنهر العلاقات المصرية-الصينية

تشكل الثقافة رافداً مهماً لنهر العلاقات المصرية-الصينية التي تشهد اليوم “السبت” صفحة مجيدة في سجلها المضيء مع بدء زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لبكين حيث يجري مباحثات مهمة مع كبار المسؤولين الصينيين ويحضر قمة منتدى التعاون الصيني-الأفريقي.

والحضور الصيني في المهرجانات والفعاليات الثقافية والفنية المصرية موضع ترحيب وحفاوة المصريين الذين ينظرون دوما للصين كدولة صديقة فيما يسعى الجانب الصيني بهمة واضحة لتدشين “ثقافة طريق الحرير” ضمن أاحياء هذا الطريق التاريخي الذي كان يربط بين الشمال والجنوب كما ربط بين الحضارتين الصينية والمصرية.

وفي “مهرجان القلعة الدولي للموسيقى والغناء” الذي اختتم مؤخراً في القاهرة وحضره أكثر من 100 الف مشاهد على مدى أكثر من أسبوعين كانت أوركسترا الصين حاضرة في الدورة الـ27 لهذا المهرجان الفني والثقافي جنبا الى جنب مع فرقة الشباب والأطفال الصينية فيما كانت “فرقة أوبرا القاهرة” قد توجهت الى الصين لتقديم عروض في الأسبوع الأول من شهر أغسطس الفائت بمدينة “شنج دو” بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ62 لاقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والصين.

كما استضافت مكتبة الأسكندرية من الثامن وحتى السابع والعشرين من شهر أغسطس المنصرم”معرض التراث الثقافي اللامادي في الحياة اليومية بشنغهاي” وهو المعرض الدولي المتنقل للفنون الصينية التقليدية الذي نظمه المركز الثقافي الصيني بالقاهرة في الثغر السكندري الذي يشكل محطة هامة “على طريق الحرير التاريخي”.

وفي لقاء ثقافي عقد مؤخراً بالمجلس الأعلى للثقافة في القاهرة ، اتفق مثقفون مصريون وصينيون على قوة الوشائج التاريخية والحضارية بين مصر والصين ، ودعا الكاديمي والناقد ووزير الثقافة المصري الأسبق الدكتور شاكر عبد الحميد للتركيز على دراسة النموذج التنموي الصيني معتبراً انه النموذج الأقرب للثقافة المصرية.

وتحتضن جامعة القاهرة “معهد كونفوشيوس” لتعليم اللغة الصينية كما يوجد معهد اخر يحمل اسم هذا الفيلسوف الصيني الشهير الذي قضى عام 479 قبل الميلاد في جامعة قناة السويس والذي شهد في شهر ابريل الماضي مسابقة “جسر اللغة الصينية” التي تنافس فيها عدد كبير من دارسي اللغة الصينية في مصر وقد واكبت مسابقة هذا العام الذكرى السنوية العاشرة لاقامة ذلك المعهد بمدينة الإسماعيلية.

وكانت الصين قد أسست منذ عام 2004 معاهد كونفوشيوس حول العالم لتعليم اللغة الصينية ونشر ثقافة الصين والتي بلغ عددها حاليا نحو 500 معهد وتخطط بكين لمضاعفة هذا الرقم بحلول عام 2020.

وتجلى الاهتمام الصيني بدعم الحضور الثقافي في مصر ضمن التفاعل الحضاري والتواصل التاريخي بين شعبي الدولتين الصديقتين في تدشين “بيت الحكمة للاستثمارات الثقافية” منذ عام 2011 بأرض الكنانة كبؤرة ثقافية مشعة تشمل العالم العربي ككل وكمنصة هامة ومؤثرة للتعاون الثقافي بين الجانبين.

و”بيت الحكمة” يعمل في عدة مجالات ثقافية تتضمن النشر والترجمة وتبادل حقوق النشر بين الصين والدول العربية فضلاً عن أفلام الرسوم المتحركة والبرامج والأفلام الوثائقية وتجارة الكتب الالكترونية وانشاء اكبر موقع ترجمة بين اللغتين الصينية والعربية في العالم.

وهذا الكيان الثقافي الصيني معني بالصناعات الثقافية بكل أنواعها ونجح في تصدير أكثر من 500 كتاب صيني للدول العربية مقابل أكثر من 50 كتابا عربياً ترجم ونشر في الصين وينظم كل عامين مؤتمراً دولياً للناشرين الصينيين والعرب كما يشارك في أهم معارض الكتاب بالعالم العربي وفي طليعتها معرض القاهرة الدولي للكتاب.

وعبر هذه المنصة الفاعلة للتبادل الثقافي يمكن للقاريء العربي أن يطالع ابداعات كتاب صينيين سواء في الرواية أو القصة القصيرة لأسماء مثل لي ار المنتمي لجيل الروائيين الرواد في الصين وتيه نينغ التي يلقبونها هناك بلقب طريف :”المرأة الحديدية” وصاحبة روايات عديدة من بينها رواية “الهروب” التي ترجمت للعربية وكذلك الروائي المخضرم ليو جين يون والأديبة فانغ فانغ صاحبة “سكون مابعد العاصفة”.

والكاتب الصينى مو يان الذي فاز بجائزة نوبل للآداب عام 2012 يوصف من جانب نقاد بأنه صاحب “الخلطة السحرية الصينية في الكتابة ووحده يمتلك السر الكبير لتلك الخلطة الإبداعية بين الواقعية والمثالية والملحمية ومآساة التاريخ والسخرية والهجاء”.

ومن هنا نوهت الأكاديمية السويدية فى حيثيات منح جائزة نوبل فى الآداب لمو يان بقدرته الفذة على الجمع بين الخيال والواقع وبين البعد التاريخى والبعد الاجتماعى والمزج بين التراث الحكائى الشعبى والتاريخ والمعاصرة بصورة واقعية فريدة وبلغة مدهشة للغاية .

وهذه الخلطة السحرية الصينية التى تجسدت فى صاحب نوبل للآداب عام 2012 دفعت الأمين الدائم للأكاديمية السويدية بيتر انجلوند حينئذ للقول عن ادب مو يان:”اننا أمام تأليف فريد من نوعه ومزيج من الأمريكى ويليام فوكنر والبريطانى تشارلز ديكنز والفرنسى فرانسوا رابليه”.

وإذا كان النوبلي المصري نجيب محفوظ الذي حلت أمس الأول “الخميس” الذكرى الثانية عشرة لرحيله عن الحياة الدنيا هو صاحب الابداع الذي لن يموت في تعبيره عن روح مصر والمصريين فان مو يان يقول أن مايكتبه يعبر عن حياة الشعب الصينى وواقعه وثقافته المتفردة وموروث تقاليده مضيفا:”لكن قصصى تصف أيضا الكائنات الانسانية بالمعنى الواسع لأننى اكتب من منظور الكائن الانسانى ومن ثم فأعمالى تتجاوز الأقاليم والمناطق وعابرة للمجموعات العرقية والاثنيات”.

ويوصف مو يان مؤلف “عصيدة الذرة الحمراء” بأنه كاتب البسطاء والفلاحين والكادحين فى بلاده فان هذا الروائى ليس مجرد مثقف منحدر من الصين وانما هو جزء متجذر فى موطنه ومو يان-كما نوهت الأكاديمية السويدية فى حيثيات منحه الجائزة-ينتمى بقوة لمسقط رأسه فى شمال شرق الصين حيث ولد عام 1955 وشب عن الطوق فى مقاطعة “شاندونج” وهو صاحب “واقعية مذهلة فى دمج التراث الحكائى الشعبى بالتاريخ والحاضر “.

والاسم الأصلى والحقيقى لصاحب جائزة نوبل فى الآداب عام 2012 “جوان مويه” فيما اختار لنفسه الاسم المستعار للكتابة الذى اشتهر به وهو :” مو يان” ويعنى حرفيا:”لاتتكلم” بعد أن صدرت له رواية “بريق الكريستال” عام 1986 عن طفل يحجم عن الكلام فى بلدة ريفية يعرف الكاتب جيداً تفاصيل الحياة فيها بحكم تكوينه حتى قيل أن هذا الطفل هو مو يان ذاته.

ولئن كان جاو تشينجيان الذى حصل على نوبل للآداب عام 2000 ولد فى الصين الا انه لايحمل جنسيتها وانما هو مواطن فرنسى فيما كانت بيرل بيوك التى فازت بالجائزة عام 1938 وابدعت فى الكتابة عن الحياة الريفية فى الصين لاتحمل جنسية بلاد التنين وانما هى روائية امريكية ذات نفس ملحمى فى الكتابة وصاحبة روائع ادبية عن الصين والصينيين.

اما الكاتبة الصينية تشي تسي جيان فهي صاحبة ابداعات طريفة مثل معاناة الحصان والانسان معا في روايتها :”الحصان والزوجان” بينما يبرز اسم رائد الأدب الشعبي الصيني سو تونغ الذي تناول حياة الفلاحين النازحين بنظرة ابداعية متأملة في روايته :”قوارب البطيخ”.

ويحذرنا لاو ما من سجن الذات داخل أسوار فكرة واحدة في قصته “حب بيوان ونصف” فيما يعبر ادب القصة القصيرة لشو تشي تشينغ عن “قومية هوي المسلمة” وملامح الحياة للصينيين المسلمين كما فعل في مجموعات قصصية من بينها “سكين الماء الصافي” و”الغسق” و”ساحة الفاكهة” .

والذاكرة الثقافية والفنية المشتركة للشعبين المصري والصيني لم تنس أن الصين كانت ضيف الشرف في الدورة الثامنة والثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي التي أقيمت في شهر نوفمبر عام 2016 وجاء هذا الحضور وسط ترحيب كبير من المصريين ليعكس الاهتمام الواضح بتعزيز الحوار والتواصل الثقافي والحضاري بين شعبي الدولتين الصديقتين.

وشهدت الدورة الـ 38 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي برنامجاً خاصاً للسينما الصينية المعاصرة عرض فيه 15 فيلماً صينياً فضلاً عن المنافسة بفيلم في المسابقة الرسمية أصدر المهرجان كتاباً بعنوان “نظرة على السينما الصينية” بقلم الناقد السينمائي الفرنسي المرموق جان ميشيل فرودو.

وهو ما اعتبره فنانون مصريون فرصة جيدة للتعرف على خصائص الثقافة والفن في الصين ودعم التعاون الثقافي بين البلدين الصديقين فيما حظى المخرج الصيني جيا زانكيه بجائزة من جوائز التميز الذي يمنحها هذا المهرجان السينمائي الدولي وشاركت كاتبة السيناريو الصينية لي يو في لجنة التحكيم.

وفي خضم طموحات تعظيم القوة الناعمة الصينية اقدمت الصين على استثمارات في هوليوود وشراء بعض شركات الانتاج السينمائي الأمريكي فيما تسعى شركات سينمائية أمريكية أخرى لشراكة مع شركات صينية وسط توقعات بزيادة عائد الأفلام الصينية من 4.3 مليار دولار في عام 2014 الى 8.9 مليار دولار في عام 2018 فيما ترحب السلطات الصينية بتصوير الأفلام الأمريكية في اراضي الصين وتمنح تسهيلات كبيرة لمنتجي هوليوود.

وكان المخرج الأمريكي والتايواني الأصل انج لي قد توقع بأن تتفوق السينما الصينية على هوليوود في غضون السنوات القليلة المقبلة فيما اوضح هذا المخرج الذي حصل على جائزة الأوسكار مرتين ان صناعة السينما في الصين ضخمة وستزداد ضخامة في السنوات القادمة بما يتجاوز صناعة السينما الأمريكية.

وفي “معهد ميركاتور للدراسات الصينية” الذي يقع مقره في العاصمة الألمانية برلين يقول الباحثان المشاركان اولبيرج وبيرترام لانج ان الصين تستخدم القوة الناعمة لزيادة جاذبية النموذج الصيني في الخارج فيما يقدر حجم الموازنة المخصصة سنويا لتعزيز “الحضور العالمي لوسائل الاعلام الصينية” بعشرة مليارات دولار أمريكي “حتى يتسنى “للميديا الصينية ان تروي قصة الصين جيداً حسب تعبير الرئيس الصيني تشي جين بينج “.

وتقر وسائل اعلام وصحف غربية شهيرة مثل صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية بأن هناك تطوراً ملحوظاً بسبل ذكية واحترافية في أدوات القوة الناعمة الصينية ومن بينها الأفلام واشرطة الفيديو التي تنتجها شركات مدعومة من الحزب الشيوعي الحاكم في الصين.

ولاحظ الباحثان تصاعد حضور القوة الناعمة الصينية في القارة الأفريقية جنباً الى جنب مع تزايد ابرام “اتفاقيات لنشر وتوزيع المحتوى” في أماكن عدة بالعالم من بينها استراليا ناهيك عن الولايات المتحدة ذاتها حيث يتحرك الصينيون بقوة لشراء شركات إعلامية أمريكية وشملت هذه المحاولات حتى السعي لشراء مجلة شهيرة مثل “مجلة نيوزويك”.

واذا كانت قمة منتدى الصين- افريقيا من أهم الفعاليات الاقتصادية والسياسية التي تعكس الاهتمام الصيني بالقارة الأفريقية وتهدف لتكثيف ودفع العلاقات الصينية مع الدول الافريقية فان هذا العنوان موضع اهتمام ثقافي واضح في الصين.

وفى دراسة بعنوان “السياسة الأفريقية للصين وقوتها الناعمة”- تناول الباحثان جيانبو ليو وتشياو مين زهانج بصورة مستفيضة مسألة القوة الناعمة كسبيل مباشر لحماية وتوسيع نطاق المصالح الوطنية للصين فى الخارج وعبر البحار فيما يرى الباحثان أن القارة السمراء تشكل ساحة هامة لتعزيز القوة الناعمة الصينية فى بيئة صراعية تعد سمة أساسية للعلاقات الدولية.

وحسب هذه الدراسة المطولة للباحثين اللذين يعمل أولهما فى معهد تثقيف الكوادر بالحزب الشيوعى الصينى فيما يعمل الثانى بجامعة بكين للدراسات الأجنبية فان ضمان النمو المتواصل للعلاقات الصينية – الأفريقية يشكل محكاً واختباراً للصورة الذهنية للصين ومسؤولياتها الدولية فى حقبة جديدة مع تأكيدهما على انه من الأهمية بمكان للأستراتيجية الخارجية للصين تحليل الانجازات التى تحققت والمشاكل التى مازالت قائمة فيما يتعلق بحشد وتعبئة القوة الناعمة وزيادة التأثير الصينى فى افريقيا.

ومن ثم يطرح الباحثان جيانبو ليو وتشياو مين زهانج فى هذه الدراسة سلسلة من التوصيات والاقتراحات لتحسين صورة الصين وسمعتها فى القارة الأفريقية تتضمن صياغة استراتيجية شاملة ومتماسكة لتعظيم الاستفادة من القوة الناعمة الصينية فى افريقيا ومنح مزيد من الاهتمام للدبلوماسية الثقافية ونشر الثقافة الصينية فى ربوع القارة السمراء وزيادة جاذبية النموذج التنموى الصينى فى عيون الأفارقة واقناعهم بأن توسيع نطاق التعاون المشترك يخدم الجانبين معا.

كما يوصى الباحثان بزيادة عدد الطلاب والدارسين الأفارقة فى الصين ومنح اهتمام أكبر للدراسات الأفريقية فى الجامعات الصينية وإقامة معارض ثقافية صينية فى الدول الأفريقية.

وباهتمام بالغ يمضي “الغرب الثقافي” عبر العديد من المفكرين والمحللين والمعلقين في منابره ووسائطه المتنوعة في متابعة التطورات في العلاقات الصينية – الأفريقية ناهيك عن تطورات التجربة الصينية التي أمست أقرب “للمعجزة” فيما خضعت النظرية الشيوعية “للتفكير الابتكاري الصيني” لتظهر مصطلحات جديدة تتردد عبر المنابر الثقافية الغربية مثل “الشيوعية المغامرة” أو “الشيوعية المتلاقحة مع الرأسمالية” و”اشتراكية الرخاء” وكذلك “اشتراكية السوق” و”مبادرات المشاريع الاشتراكية” فضلاً عن “المدن الذكية” التي تجسد أحدث التطبيقات لثورة الاتصالات والمعلومات.

وحسب تقديرات منشورة لمنظمة السياحة العالمية فان الصين تشكل “القوة السياحية الأولى في العالم” من حيث الانفاق على صعيد السياحة الخارجية حيث انفق السائحون الصينيون في الخارج خلال عام 2017 ماقدرته المنظمة ب 258 مليار دولار أمريكي فيما جاءت الولايات المتحدة في المركز الثاني حيث انفق السائحون الأمريكيون 135 مليار دولار.

وكانت الصحافة الأمريكية قد ابدت اهتماماً واضحاً بكتاب صدر بعنوان :”هنرى كيسنجر والصين” وهو كتاب بقلم وزير الخارجية الأمريكي الأشهر في سبعينيات القرن الماضي اي كيسنجر ذاته يكشف فيه عن أسرار جديدة حول مهمته منذ اكثر من أربعة عقود لطرق أبواب الصين واقامة علاقات دبلوماسية بين واشنطن وبكين فيما يتحدث بلغة بديعة ومشوقة حقاً عن الحضارة الصينية القديمة وكيف يؤثر تاريخ دولة ما على تشكيل وصياغة سياستها الخارجية واتجاهاتها نحو العالم .

وشأنها شأن الصين فان مصر التي تنتمي للقارة الافريقية يهمها رفع معدلات الحداثة مع دعم سيادة الدولة الوطنية فيما تمضي الدولتان الصديقتان قدما على صعيد التعاون الوثيق في كل المجالات بما يخدم مصالح الشعبين معا وعلى قاعدة ثقافية تتجلى في مقولة موضع اتفاق بين المصريين والصينيين آلا وهي ان” الحلم لن يتحول الى واقع الا بالعمل”.

المصدر: أ ش أ

2018-09-01